اسرار الكون بين علم اليقين وعين اليقين
صفحة 1 من اصل 1
اسرار الكون بين علم اليقين وعين اليقين
سأل أحد الطلاّب أحد الفيزيائيين سؤال ظنّه الكل أنّه سخيف، قائلا: " ماذا سيحدث للأرض لو قام كل سكانها بالقفز مرّة واحدة و في لحظة مشتركة من مشرق الأرض إلى مغربها ؟ "(1) فرّد الفيزيائي ضاحكا: " لن يحدث للأرض و لا للجبال أي شيء حتى و لو كان عدد القافزين عليها هو عشرة أضعاف معمريها اليوم !"(2) ولقد أبكاني هذا الأمر أكثر مما أضحك عالم الفيزياء هذا ومن معه عندما أيقنت أنّ حجمنا نحن البشر كالعدم أمام قوة العزيز الجبار و عظمة هذا الكون، و راح أستاذ الفيزياء هذا - دون أن يعلم- يبرهن بدليل المنطق و الحساب عظمة وقدرة الرحمن و مبرزا لنا عجز وضعف الإنسان.
فلو افترضنا أن معدل وزن كلّ واحد من البشر هو 100 كيلوجرام فستكون كتلة سكان المعمورة هي 000 000 000 600 كيلوجرام، و علما أنّ الكتلة الإجمالية للكوكبنا الأخضر تقدّر ب : 000 000 000 000 000 000 000 972 5 كيلوجرام... (3)، فإن نسبة كتلة كل البشر إلى نسبة كتلة كوكبهم ستكون حسابيا : 01 000 000 000 000 ، 0 % ! و بلغة الإحصاء نقول أنّ كتلتنا نحن الآدميون تؤول إلى الصفر أمام الأرض التي نعمّرها ! بل تؤول إلى العدم المحض أمام هذا العدد الهائل من ملايين الميليارات من الأجرام السماوية من نجوم و كواكب و غيرها، وصدق ربنا إذ قال: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ غافر (آية:57)
و لو أردنا مثلا أن نقيس كمية الطاقة التي ستنتُج من قفز ستة ملايير من البشر من علوّ متر في لحظة واحدة فإننا نجد أن الطاقة الناتجة تقارب 6000 مليار جول... (4) وهي طاقة لا تساوي شيء مقارنة بالطاقات التي تنتجها الظواهر الطبيعية عند حدوثها، كالصواعق والزلازل و ثوران البراكين و الأعاصير والإنجرافات وغيرها، فمعدل الطاقة الناتجة مثلا من جرّاء حدوث زلزال متوسط تقدر ب: 000 000 000 000 000 000 100 مليار جول !
وراح أستاذ الفيزياء يؤكد أن القفزة البشرية لا يمكنها أن تُحدث و لو نسمة من ريح ولا من شأنها أن تنتج أدنى هزّة أرضية ! ورحت أتلو قول باسط الأرض وخالق والإنس والجان من سورة الإسراء : ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ الإسراء (آية:37).
إن حجم كوكبنا الأرضي أمام حجم الكون كله وما يحتويه من آلاف المليارت من المجرّات هو كمثل حجم حبّة رمل في وسط كل رمال الصحاري و شواطئ البحار وأعماقها وأضعافها وأضعاف أضعافها ! فإذا كان هذا هو حجم ملايير البشر أمام الأرض (كما سبق تبيانه في النسبة أعلاه) فكيف بحال كل فرد منّا أمام حجم الكون كلّه؟! بل كيف بحجم كلّ نفس بشرية أمام خالقها و خالق كل شيئ؟! فحجم الدنيا كلها ( النشأة الأولى بما يحتويه كل الكون) عند خالقها لم ترتقي حتى إلى وزن جناح بعوضة، فكيف هو حجم الأرض عند خالقها إذا؟! بل كيف بحال الخلق عليها و حجمهم عنده ؟! و الله لن يضروا الله شيئ حتى و لو قفزوا برّمتهم جاهرين بكفرهم و إلحادهم ! بل لا يضرّونه شيء حتى و إن قفزوا من بداية الدنيا إلى نهايتها بإنّسهم وجنّهم صغيرهم وكبيرهم، ذكورهم و إناثهم ! و كيف يضرّونه سبحانه بكفرهم وعصيانهم ولا يوجد موضع أربع أصابع(5) في كلّ هذا الكون العظيم إلا و ملك ساجد أو راكعا يسبّحون بحمد ربهم و يستغفرون دون أن يستكبرون لحظة ! هذا فضلا عن تسبيح النجوم والأجرام نفسها وصدق الله العظيم إذ قال: ﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ النحل (آية:49).و يكفي أن نطابق عدد المجرات و ما تحويها من ملايين الملايير من الكواكب و النجوم بعدد الملائكة الراكعين المسبحين لكي نعلم أنّه لا يمكننا أن ندرك عدد من لا يستكبر من مخلوقات الله ! و هل أحصينا عدد حبّات الرمال في كوكبنا العدم أو عدد خلايا أجسامنا حتى نحصي ما لا يقدر على إحصائه إلاّ الله ؟!
ويكفي أيضا أن نطابق عدد البشر وحجمهم بعدد النجوم و الكواكب و حجمها لكي ندرك أنّنا مقصرين في سجودنا لله، و كيف لا و عندما يسجد الواحد منّا يكون قد سبقه في سجوده هذا ما يزيد عن مئة ألف مليون مليار نجم (6)، وصدق العزيز الجبار إذ قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾ الحج (آية:18) . و في نفس السياق نقول: لن ينفع البشر الله سبحانه حتى و لو سجدوا له جميعا من أولّ الخلق إلى آخر البعث سجدة رجل واحد، و كيف لهم أن ينفعوه سبحانه و هو بارؤهم غنيّ عنهم أوجدهم من العدم ثم اسكنهم في كوكب بحجم العدم ! كوكب في مجموعة شمسية حجمها ليس أكبر من العدم ! و مجموعة شمسية في مجرّة يؤول حجمها، أمام ما يزيد عن 500 مليار مجرة(7) ، إلى العدم ! ثم يميتهم ثم يحييهم، ثم إما جنّة عرضها كعرض السماء والأرض وإما ناراً تكون شمسناً التي نراها اليوم كمثابة جمرة من جمارها !
صورة للشمس
الشمس، أكبر النجوم في مجرتنا، العمر:4.5 مليار سنة ، حجمها = 333 حجم الأرض ، كثافته 92.1% هيدروجين، 7.8% هليوم، درجة الحراة :15600000 درجة مئوية.......(
و الله كما لو أننا نرى الجنّة و رياضها بعرضها و سعتها، و كما لو أننا نرى هول جهنّم و حفرها من قبل يوم القيامة ! أليست الشمس بدليل الحسابات الرياضية و صور التليسكوبات الفلكية هي 333 مرّة حجم الأرض ؟! فماذا عن حجم البشر أمامها؟ بل ماذا لو سألنا أستاذ الفيزياء هذا عن ماذا سيحدث للشمس لو قفز كل البشر فيها قفزة واحدة؟! و الله لن ينقص ولن يزيد من حجمها بدليل المنطق والعقل والحساب و العلم شيئ ! ثم أليست الشمس بدليل نفس البراهين العلمية هي كمثابة نقطة في كلّ هذا الكون ؟ و أنّ في مجرتنا لوحدها فقط ما يزيد عن 100 مليار نجم بحجم الشمس أو أكثر ؟(9) فإذا ما هو حجم الشمس أمام 500 مليار مجرّة؟! هذا هو حال جمرة واحدة، أمّا عن التي ﴿ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر ُ﴾ المدثر (آية:28) فبلسان حالها تقول : ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ ق (آية:30)
و لنا أن تأمّل معا كيف يقودنا علم الإعجاز إلى الإيمان بوحدانية الله و معرفة حقائق صفاته الحميدة:
إنّ الكون بأبعاده وأجرامه اللامتناهية الحساب موجود، تلك بديهية مُسلمٌ بها بل هي علم اليقين عند كل بشر، وكونه موجوداً فهذا يعني منطقيّا أن مكوناته وأبعاده تشغل حيّزاً من شيء مّا أكبر منه قادر على احتوائه، ومن ثمّ تسيره وتنظيمه، هذه حقيقة لا يختلف فيها عاقلان ! ونحن عندما نتدبر في هذه الحقيقة ندرك بمبادئ المنطق أنّ لهذا الكون خالق، ولو تدبرنا أكثر لأدركنا بعين اليقين أنّ في كل زاوية من هذا الحيّز آيات وصفات وبراهين لهذا الخالق، صفات لا تنفك أن تتجلى في ربوع وأطراف خلقه، لأنّه كما علّمتنا مبادئ الرياضيات أنّ المحتوي يضفي بعض خصائصه على المحتوَى ! فيمتاز المحتوي على المحتوَى بالشمولية والإحاطة والتنظيم والأمر والتسيير ! بينما يتميّز المحتوَى أمام المحتوي بالعجز و التبعية والخضوع !
و في نفس السياق من المنطق نرى كيف يمكن لعلم الإعجاز أن يبرز لنا صفات وقدرة الخالق سبحانه في محتوَى الكون الذي أحاط باسراره و إحتوى سبحانه - بعلمه- كل أبعاده، ولكل من يرفض نظرية الخلق في محاولة لإعطاء تفسير عن كيفية نشوء الكواكب و المجرّات نقول لهم وندعوهم بدورنا للتدبر في أسرار الكون وحجمه وعدد مجراته وفضائه البديع، وبنفس المنطق والبديهيات السابقة سيدركون حتما كيف أنّ صفات الخالق واسمائه تتجسد في كونه عيانا وجهرا لكل عاقل لبيب.
فلو تدبرنا هنيهة في تركيبة السموات والأرض وحجم الكون الرهيب ثم تمعنّا في هذه النشأة الأولى ودلائل قدرة الخالق فيها لأدركنا بعلم اليقين أن الله هو الغني المستغني بذاته عن سواه من الخلق، وكل الوجود مفتقر إليه، فلا يمكنهم نفعه سبحانه وهم في نشأتهم وفي حالة وجودهم عدم ! و هو الكريم الذي يعطي دون أن يسئل ودون مقابل ويعطي بالزيادة، ألا ترون فساحة الكون وزيادته رغم أننا نعيش في نقطة فيه فقط؟! و هو العظيم خلق كونا عظيما و أورث عباده قطرة فيه ليريهم أنه هو القوي المتين، و هو العليم يعلم موضع ذرّة في واد سحيق في أرض بحجم العدم !
وهو منزل القرآن بالحق ليخبرنا عن الحق لكن أكثر الخلق غافلون، أوهمهم إبليس فوعدهم حياة بحجم العدم ! فنسوا أنّهم راحلون و ليست الدار بدار مقام أبدا، و لو كانو يفقهون قليلا لأدركوا أنّها ليست كذلك، فلا يمكن لدار مخلّدة أن تكون بحجم العدم ! و لأدركوا أيضا أن القوة التي أوجدتنا في هذه الدار قد أعدّت ما هو خير لنا، فلا يليق بالكربم أن يكرم غيره بالبخل ! وأنّه هو الرّحمن المنعم بجلائل النعم، أنعم علينا بالحياة في أرض كانت ميتة لملايير السنين، فأحياها لنا و أحيانا لعبادته. و أنّه هو الملك المتصرف بملكه كيف يشاء، فإن شاء أذهب بالكون و من فيه و أعاده لحالته العدم من قبل الخلق و من قبل الفتق. و أنّه هو القدّوس المتعالي على كل النقائص، فالنقص فينا نحن البشر، عاجزون حتى على إدراك ما سخّره الله لنا في باطن أنفسنا و في آفاق أرضنا وفي أطراف كوننا هذا. و أنّه هو المهيمن المسيطر، سيطر بعلمه و قوته على كل شيء، فكل شيء يسير بأمره و بعلمه، و ما من نجم أضاء أو أفل إلاّ كان به عليما بصيرا حتى و إن كان من بين ملايين الميليارات من النجوم. و هو الخالق الموجد للمخلوقات، فالق الحب و النوى، فاطر السموات و الأرض، يعلم موضع و حال و حاجة خلقه من أصغر الذرّات إلى أكبر المجرات. و أنّه هو القابض، قابض الأرواح و الأرزاق، والقابض على السموات والأرض والكون. و أنّه هو الباعث ، باعث الرسل إلى الناس، باعث الموتى من القبور، باعث النور من النجوم، وباعث الحياة كلها في اي مكان يشاء. و أنّه هو المُحصي لا يغيب عنه شيء، أحصى كل شيئ عددا، عالم بالذرّة و نواتها وبالخلية و شؤونها و بالمجرّة و نجومها، أحاط بكل شيئ علما و لا نحيط بشئ من علمه إلا ما شاء. و أنّه هو المُبدئ، مبدئ الخلق من العدم، خالق الكون ب "كن"، فاتق السماوات و الأرض، خالق الوقت و الفراغ و الأجرام . وأنّه هو المُعيد، يعيد الحياة و الوجود إلى أولّ الخلق و إلى مرحلة الرتق. و أنّه هو الأول لا شيء قبله، أزلي الوجود كان ولا يزال سبحانه على ما كان عليه من قبل خلق المكان . وأنّه هو الآخر، الباقي بقاء أبديا سرمديا بعدما أن يطوي السماء كطيّ السجل للكتب. و أنّه هو الظّاهر، أظهر وجوده بآياته في أنفسنا و في آفاقنا و ما وراء كوكبنا و مجرتنا. و أنّه هو الباطن، لا يعلم أحد ذاته و يعلم ما في الأرحام و ﴿ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ سبأ (آية:2) وأنّه هو المانع ، يمنع أسباب الهلاك ويمنع ما شاء عمن شاء، فيمنع ألاف المذنبات أن تسحق أرضنا كل يوم، و يمنع عشرات الزلازل من أن تخسف بنا الأرض في كل حين. و أنّه هو البديع أوجد كل شيء لا على مثال سابق، بديع السموات و الأرض ليس كمثله شيئ. و أنه الجبّار المنفّذ لأمره دون اعتراض، فلا يمكن للبشر أن يمنعوا سكون الأرض و لا منع دورانها، و لا إشتعال الشمس و لا خمودها و لا منع توسع الكون و لا توقيف إنطوائه، و انه هو ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ طه (آية:
الإعجاز العلمي بين علم اليقين و عين اليقين
وهكذا فإن لله صفاة و أسماء يمكن إدراكها بالعلم والتدبر في هذا الكون وأبعاده و ماهيته وفي كلّ شيء فيه، لقد ذكر الله سبحانه مكونات الكون (من السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الكواكب) في كتابه الحكيم في أكثر من 800 آية قرآنية (10)، أي ما يعادل ثلاث مرّات سورة البقرة ! لا لشيئ و لكن ليرنا عجائب قدرته ولكي يأمرنا بالتدبر ومن ثم الإيمان والخضوع و ليخبرنا سبحانه أنّه مــا عُـــبـِد الله بشيء أفضل من العلم.
إن في الكون أسرار أعقد من خلق البشر أنفسهم بكثير، فمن أدركها كان له علم اليقين، ومن زاد عن ذلك وتدبّر تدبر الرجل العاقل الكيس كان له عين اليقين، ثم سيدرك بعدها حقيقة وجوده وغاية خلقه و وجوب عبوديته لخالقه، حتى تطهر نفسه و تزكو فتكون بذلك مؤهلة لمجاورة المولى تعالى و مجاورة الأنبياء و الشهداء والصالحين في أعلى الجنان، بعدما ينشئ الله عز وجل النشأة الآخرة و بعدما ان يرث سبحانه النشأة الأولى كما قال في سورة العنكبوت ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ العنكبوت (آية:19،20)،و النشأة الآخرة مرهونة بزوال النشأة الأولى كما قال سبحانه في سورة الواقعة ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ﴾ الواقعة (آية:62)، أي أنه سبحانه يضرب لنا مثل النشأة الأولى ويطلب منا أن نتدبر فيها لتحصيل علم اليقين من تدبرنا هذا، حتى إذا تسنّى لنا ذلك بفضله ومشيئته كان لنا عين اليقين، يقين يقودنا حتما إلى الإيمان الصحيح الراسخ في القلوب المتدبرة، قلوب متدبرّة تقودنا إلى قلوب سليمة خالية من كل شائبة و مجردة من كل شك و ظن و نفاق، و قلوب سليمة في نفوس ستلاقي ربها يوم الميعاد فترى أبواب الجنّة تفتح لها فذلك هو حق اليقين. ففي كلتى الآيتين الكريمتين يأمرنا الله بالتدبر: (فَانظُرُوا) و (فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ)، أي بعد أن ندرك ونفقه الكيفية التي أنشأ الله عز وجلّ عليها الكون و مكوناته لا يرتابنا شك أبدا في وجود الدار الآخرة التي سينشؤها الله عز وجلّ بما فيها من سماوات وأرض أخرى ، ساعة أن يبدل الله عز وجلّ الأرض غير الأرض والسماء غير السماء (11) ، ومن ثم ينشئ النشأة الآخرة نشأ جديدا، كما قال في سورة إبراهيم ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ إبراهيم (آية:48)، و ينشئ سبحانه البشر نشأة أخرى كما قال في سورة الواقعة ﴿ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الواقعة (آية:61 ).
يجب علينا أن ندرك كل ذلك و إلاّ لما إكتمل إيماننا، بل نحن مسؤلون يوم القيامة عن عدم التفكر و التدبر والإمعان في ما خلق الله لنا، كما قال عز و جل ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ الأعراف (آية:179 )، و الغفلة كما علمنا هي الإنحطاط و التدّني إلى أدنى درجة الجهل و اللامبالات و النسيان و الشرود الذهني، وعقوبتها كما هو مبين في الآية هي النار و العياذ بالله ! ثم إن بين البهائم و البشر ليس وجود أو غياب العقل فحسب و لكن تشغيل هذا العضو هي الغاية من وجوده، و إلاّ لكان من يحمل عقلا معطلا غافلا عن التفكر والتدبر كمن لا يحمل عقلا البتة !
ولما كان الإصغاء و النظر و الإمعان هي من مظاهر التدبر، والذي هو واجب بدوره ويقود صاحبه إلى العلم ثم إلى الإيمان (كما سبق تباينه ذلك في الآية من سورة الأعراف) كان الإنسان مسؤل عن تركه، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ الإسراء (آية:36 ).
و الآيات السابقة الذكر توحي لنا عن إستفهامات كثيرة وكفيلة بأن تقودنا إلى اليقين: فلماذا مثلا خلق الله عز وجل لنا كل هذه المجرات وهذا العدد الذي لا يحصى من النجوم أليس للتدبر و التمعن و من ثم الإيمان و الخضوع ؟؟ ثم لماذا خلق سبحانه لنا عقل مفكر فضّلنا به عن كثير ممن خلق ؟! أليس لتحريك العقل بالتدبر في قدرة خالق النشأة الأولى لكي يكون لنا اليقين بالنشأة الآخرة ؟! و من ثم الإيمان قطعا بالحشر و بالبعث و المآل إلى الجنة أو النار ؟! فلو لم يكن الإيمان بالله غاية و سيلتها التدبر لكانت المجموعة الشمسية الحالية تكفي للعيش في النشاة الأولى دون الآلاف من الملايير من المجرات الأخرى !! و مثل هذه الآيات- السابقة الذكر- في القرآن كثيرة، فلا يكاد يخلو القرآن من الحث عن التدبر و التمعن في عظمة الكون و تبيان الوعد لمن تفكّر في ملكوت الله و وعيد من غفل عن ذلك التكليف ! و لا يكاد القرآن يتوقف عن تكليفنا و حثنا للتمعن و التدبر في النشأة الأولى من سموات وأرض ونجوم و مجرات وزمن وفراغ وكل شيئ لم ندركه حتى الآن، أليس في هذا التكليف غاية تحقيق الإيمان بالنشأة الآخرة من جنة نعيم ونار جحيم؟ فعجب إذا كل العجب للمكذّب بالنّشأة الآخرة وهو يرى عظمة النشأة الأولى ! وحال هذا المكذّب كحال من يدرك بعلم اليقين أنّ في الكون عددا لا يحصى من الشموس، و تراه ينقل الخبر يقينا و يسلم به تسليما كليا، ويكذب بوجود نار حارقة- في الدار الآخرة- تكون أضعاف أضعاف شمس الدنيا هذه !
أو يؤمن مثلا أن في الكون نجوم و مجرّات تبعد عن كوكبنا بآلاف السنين الشمسية ويكذّب بقول الرسول أن لجهنّم قاع مقداره 70 خريفاً !! أو يصدق يقيناً أن أقرب ثقب اسود إلينا يبعد عنا ب 5000 سنة شمسية و يكذب بقول الرسول أن بين باب وآخر من أبواب الجنة الثمانية هو مسيرة 70 عاما(12) ! أو تراه يفترض وجود مخلوقات أخرى في كواكب أخرى و يكذّب بوجود الملائكة ! أو تراه يفترض إمكانية انهيار الكون على نفسه و زواله ولكن لا يؤمن بيوم القيامة و أهواله ! فيقول هذا من يقين ناسا (NASA) وذاك من أساطير الأولين ! فهو لا يريد أن تكون لديه رؤية البصيرة وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يدركه، فهذا الذي لم يقوده علم اليقين إلى عين اليقين لا يريد أن يتعلم بل تراه يدّعي أنه يعلم، وينكر على من يعلم أنه يعلم، فهو الجاهل قياسا على أبي جهل حتى و لو كان من أبرز علماء النازا نفسها!!
فالذي جاءه شيء من العلم و قاده علمه هذا إلى الإيمان يكون أحسن ممن آمن طوعا دون أن يدرك شيء من هذا العلم، فلهذا كانت درجة العلماء من المؤمنين أقرب للأنبياء من درجة العامة من الناس، وكانت درجة الأنبياء و المرسلين هي العالية مطلقا. كما أن للعلماء عند الله مكانة عظيمة على غرار العامة، ذلك أنهم يخشون الواحد القهار أكثر من غيرهم بعلمهم الذي علمهم إياه خالقهم فأدركوا بواسطته حقيقة أسمائه المقدسة و صفاته الجليلة و ما توجبه على أنفسهم من آثار العبودية ، فأثنى عليهم الله تعالى في قوله : ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الحج (آية:54 ) وقال أيضا : ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ٌ﴾ المجادلة (آية:11 )، فهذه الآية تبين فضل الله على عباده المؤمنين وفضله بدرجات أعلى على العلماء والمتعلمين، و يبين سبحانه في الآية التي قبلها أنّ صفة العلم للعلماء قد سبقت صفة إيمانهم ، و هذا راجع أن بعض العلماء - أو ممن
أوتوا العلم- قد آمنوا بعد إدراكهم لحقيقة ما أنزله الله عز وجلّ من علم في القرآن الكريم بواسطة الإعجاز، وبالتالي استبق علم العلماء إيمانهم فوقع الإيمان في قلوبهم موقعا حسنا . ففي أغلب الأحيان يكون سبب إدراك بعض من العلماء لصحة الآيات القرآنية ورسالة محمد صلى الله عليه و سلم ناتج عن تطابق الآيات القرآنية بما توصلوا إليه في أعمالهم التجريبية و النظرية من حيثيات علميّة عن الوجود الكوني، مما يعني أن نتائج أعمالهم العلمية القطعية، التي أصبحت في خانة اليقين، برهنت على أن القرآن الكريم إنما هو كلام منزل و منزه من الله جل شأنه ولا يمكن لبشر أي كان أن يأتي بمثله أبدا، فكان كلاما معجزا في كل جوانب الحياة البشرية و علومها.
من حكمته تعالى أراد للقرآن أن يكون كتاب آخر شرائعه وحجة آخر رسله، شريعة تمتد من أول الوحي- منذ 14 قرنا - إلى آخر وجود في هذا الزمان، و لما تعددت الأمم والعصور والأحداث من أول نزول الوحي إلى آخر الزمان، تعدّدت بحكمة الخالق أوجه إعجازات القرآن. وفي ذات القرآن نفسه راح سبحانه يأمرنا أن نسير في الأرض و نتدبر أمر النشأة الأولى من السماوات و الأرض و البحار والمحيطات وأمر أنفسنا، ثم يخبرنا بحال الدنيا في آخر الزمان من أهوال لها علاقة مباشرة بمكونات الكون، فالذي يتدبر مثلا تركيبة الكون يمكنه أن يطابق معرفته بأهوال يوم القيامة و لا يرتابه شك في ميعادها و يقين حدوثها، بعكس الجاهل فهو كالأعمى يسقطه جهله في كل تراهة و في كل إنكار لقدرة الخالق و وجوده، و صدق ربنا إذ قال:﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ هود (آية:24 )
أما فيما يخص آيات الرحمان في آخر الزمان و إشارات يوم القيامة من هول و إنكدار للنجوم و انفجار للبحار و تكوير للشمس وغيرها هي آيات تثبت حقائق علمية يقينية وثابتة، بل إن في مدلولها إعجازات واضحة المعالم سنبينها في ثلاث إعجازات من ثلاث آيات متتالية من سورة التكوير:
الإعجاز الأول
نحن نعلم يقينا أن الهيدروجين هو الوحدة الأساسية في حدوث عملية الإندماج النووي في باطن الشمس، فهي تشتعل منذ 4.5 ملايير سنة بواسطة هذه العملية (13) (Nuclear Fusion)،حيث تندمج في بطنها ذرتين من الهيدروجين منتجة طاقة حرارية هائلة ومخلفة ذرّة واحدة من الهيليوم الطبيعي، فالشمس عبارة عن مصنع طبيعي هائل ورهيب للطاقة الحرارية عن طريق عملية الاندماج النووي، و ستظل الشمس مشتعلة مستهلكة بذلك كل الهيدروجين الذي عليها حتى تستنفذه كليّة ومن ثمّ تنطفئ ويذهب نورها فيتقلص حجمها وتنهار كتلتها على مركزها حتى تصبح بما يعرف Supernova (14) ،ولا يملك أحدا من البشر كم تبقى لها من عمر ومتى ستنطفئ ما عدى بعض التقديرات والاحتمالات، هذه حقيقة علمية حديثة وثابتة لا غبار عليها، لكن القرآن قد سبق العقل البشري لهذه الحقيقة، حيث وعد الله جلّ وعلى قائلا : ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾، التكوير (آية:01) و "كورت" يعني إنطفئت ونكست وأذهب الله بنورها كما جاء في تفسير الطبري والقرطبي و إبن كثير و الجلالين.
الإعجاز الثاني
ظلّ قانون التجاذب العام ظاهرة محيرة لعلماء الفيزياء والرياضيات منذ أن وضعت أسس الفيزياء النيوتونية، و هو كذلك ما دام يحكم ما يزيد عن مئة ألف مليون مليار جرم سماوي، كل يسبح في مدار خاص به دون أن يلتطم أي نجم بآخر، فمن هذا الذي يمنعها من التلاطم لو ذهب قانون التجاذب العام إذا؟! فالذي وضع قانون التجاذب الفلكي الذي حال دون سقوط الأجرام و تلاطم بعضها ببعض في الفضاء الفسيح لهو قادر أن يذهب بالقانون نفسه في أي وقت يشاء، فتخرّ النجوم هاوية بأمر خالقها كما وعد عز و جل في قوله: ﴿ وَإِذَا النُّجُوم اِنْكَدَرَتْ ﴾ التكوير (آية:02) أي تساقطت وهوت، وقال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: " وَإِذَا النُّجُوم تَنَاثَرَتْ مِنْ السَّمَاء فَتَسَاقَطَتْ, وَأَصْل الِانْكِدَار هو الِانْصِبَاب" و كذا قال القرطبي.
الإعجاز الثالث
كما قلنا أعلاه أن الشمس هي مصدر طبيعي للطاقة الحرارية من خلال اندماج نووي لذرّات الهيدروجين المكونة لها بنسبة 92.1% (15)، وللإشارة فقط فإن الإنسان لم يتمكن من تحقيقه و تكرار ما يحدث في الشمس في المخابر العلمية و لو بطريقة مصغّرة، أمّا ما يقوم الإنسان به في مركباته النووية الحديثة هو إنتاج طاقة نووية بإحداث انشطار لذرة الهيدروجين وليس بدمج ذرتين منها، والفرق بينهم شاسع : فالاندماج النووي كما هو في الشمس ينتج طاقة أكبر دون فضلات قاتلة فالهليوم ليس مضرا، أما الانشطار النووي كما في المركبات النووية البشرية ينتج طاقة أصغر بفضلات مدمرة. و في سعيهم لاستخلاص أو الحصول على الهيدروجين لغرض الوصول إلى تجارب تسهل استبدال عملية الاندماج بعملية الانشطار لاحظ علماء الطاقة النووية وجود كميات هائلة من الهيدروجين الطبيعي في البحار والمحيطات (16)، و هذا ما دفع يبعضهم للتفكير في كيفية استخراج الكميات الهائلة لاستعمالها في بعض تجارب الاندماج النووي، كما أنهم يتعجبون كيف لم تندمج هذه الذرات تلقائيا مكونة لنا بحاراً و محيطات من نار!؟ و ليتهم يعودو إلى كتاب الله فيقرؤون قوله من سورة التكوير إذ قال : ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ التكوير (آية:06) أي أُوقِدَتْ و اشتعلت ناراً كما في تفسير الجلالين حيث قال : " سُجِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد : أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا"
هل يمكن لبشر، عاش في وقت التنور والخيام و الحجارة وفي صحراء يتيه فيها حتى إنسان القرن الواحد و العشرين، أن يعلم بحال البحار و المحيطات و أسرارها والكيمياء وعلومها، لولا أن يكون إلا نبيا رسولا ؟! بل كيف يمكنه صلى الله عليه و سلم أن يتكلم عن إمكانية إنطفاء الشمس دون أن يعلم تكوينها النووي والكيميائي؟! وكيف له أيضا أن يدرك قانون تجاذب الأجسام والكواكب والنجوم وهو بشر قد عاش في القرن السادس الميلادي؟؟ عاش في بيئة كان الإنسان يعتقد حينها أن الأرض ممددت و مسطحة في أطرافها سلاسل من جبال كبيرة تحمل أطراف السماء ! فيأهل الديانات الباطلة و الاعتقادات الزائفة إنّ الكون و أسراره و القرآن و إعجازه ورائكم كفيل بأن يثبت و وحدانية الخالق، و أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه و سلّم و أن يبطل عباداتكم الضالة.
انتهى درس الفيزياء فراح الأستاذ الذي ذكرناه في مقدمة هذا البحث يضيف جوابا للسؤال، قائلا لطلاّبه: " لا تسألوني عن حجم البشر وكتلتهم أمام كتلة الأرض لكن إسألوني عن حجم الأرض ونسبتها أمام كلّ الكون ! أما علمتم أنّ كوكبنا هذا يؤول حجمه إلى العدم المحض أمام آلاف الملايير من المجرات؟! فلو إنفجرت الأرض كلّها بما فيها وتحولت إلى دخان و ذرات و غبار ورماد، ثم من باب الفضول تناقلت النجوم هذا الخبر بينها، لما تجاوز خبر إنفجارها مجرتنا هذه لدرجة تفاهته...!" (17) فأنفجر مدرج الجامعة ضاحكا مرّة أخرى، أما أنا فرحت أتلو قول العزيز الرحمن : ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ النجم (آية:59، 60،61،62)
فلو افترضنا أن معدل وزن كلّ واحد من البشر هو 100 كيلوجرام فستكون كتلة سكان المعمورة هي 000 000 000 600 كيلوجرام، و علما أنّ الكتلة الإجمالية للكوكبنا الأخضر تقدّر ب : 000 000 000 000 000 000 000 972 5 كيلوجرام... (3)، فإن نسبة كتلة كل البشر إلى نسبة كتلة كوكبهم ستكون حسابيا : 01 000 000 000 000 ، 0 % ! و بلغة الإحصاء نقول أنّ كتلتنا نحن الآدميون تؤول إلى الصفر أمام الأرض التي نعمّرها ! بل تؤول إلى العدم المحض أمام هذا العدد الهائل من ملايين الميليارات من الأجرام السماوية من نجوم و كواكب و غيرها، وصدق ربنا إذ قال: ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ غافر (آية:57)
و لو أردنا مثلا أن نقيس كمية الطاقة التي ستنتُج من قفز ستة ملايير من البشر من علوّ متر في لحظة واحدة فإننا نجد أن الطاقة الناتجة تقارب 6000 مليار جول... (4) وهي طاقة لا تساوي شيء مقارنة بالطاقات التي تنتجها الظواهر الطبيعية عند حدوثها، كالصواعق والزلازل و ثوران البراكين و الأعاصير والإنجرافات وغيرها، فمعدل الطاقة الناتجة مثلا من جرّاء حدوث زلزال متوسط تقدر ب: 000 000 000 000 000 000 100 مليار جول !
وراح أستاذ الفيزياء يؤكد أن القفزة البشرية لا يمكنها أن تُحدث و لو نسمة من ريح ولا من شأنها أن تنتج أدنى هزّة أرضية ! ورحت أتلو قول باسط الأرض وخالق والإنس والجان من سورة الإسراء : ﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ الإسراء (آية:37).
إن حجم كوكبنا الأرضي أمام حجم الكون كله وما يحتويه من آلاف المليارت من المجرّات هو كمثل حجم حبّة رمل في وسط كل رمال الصحاري و شواطئ البحار وأعماقها وأضعافها وأضعاف أضعافها ! فإذا كان هذا هو حجم ملايير البشر أمام الأرض (كما سبق تبيانه في النسبة أعلاه) فكيف بحال كل فرد منّا أمام حجم الكون كلّه؟! بل كيف بحجم كلّ نفس بشرية أمام خالقها و خالق كل شيئ؟! فحجم الدنيا كلها ( النشأة الأولى بما يحتويه كل الكون) عند خالقها لم ترتقي حتى إلى وزن جناح بعوضة، فكيف هو حجم الأرض عند خالقها إذا؟! بل كيف بحال الخلق عليها و حجمهم عنده ؟! و الله لن يضروا الله شيئ حتى و لو قفزوا برّمتهم جاهرين بكفرهم و إلحادهم ! بل لا يضرّونه شيء حتى و إن قفزوا من بداية الدنيا إلى نهايتها بإنّسهم وجنّهم صغيرهم وكبيرهم، ذكورهم و إناثهم ! و كيف يضرّونه سبحانه بكفرهم وعصيانهم ولا يوجد موضع أربع أصابع(5) في كلّ هذا الكون العظيم إلا و ملك ساجد أو راكعا يسبّحون بحمد ربهم و يستغفرون دون أن يستكبرون لحظة ! هذا فضلا عن تسبيح النجوم والأجرام نفسها وصدق الله العظيم إذ قال: ﴿ وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ النحل (آية:49).و يكفي أن نطابق عدد المجرات و ما تحويها من ملايين الملايير من الكواكب و النجوم بعدد الملائكة الراكعين المسبحين لكي نعلم أنّه لا يمكننا أن ندرك عدد من لا يستكبر من مخلوقات الله ! و هل أحصينا عدد حبّات الرمال في كوكبنا العدم أو عدد خلايا أجسامنا حتى نحصي ما لا يقدر على إحصائه إلاّ الله ؟!
ويكفي أيضا أن نطابق عدد البشر وحجمهم بعدد النجوم و الكواكب و حجمها لكي ندرك أنّنا مقصرين في سجودنا لله، و كيف لا و عندما يسجد الواحد منّا يكون قد سبقه في سجوده هذا ما يزيد عن مئة ألف مليون مليار نجم (6)، وصدق العزيز الجبار إذ قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾ الحج (آية:18) . و في نفس السياق نقول: لن ينفع البشر الله سبحانه حتى و لو سجدوا له جميعا من أولّ الخلق إلى آخر البعث سجدة رجل واحد، و كيف لهم أن ينفعوه سبحانه و هو بارؤهم غنيّ عنهم أوجدهم من العدم ثم اسكنهم في كوكب بحجم العدم ! كوكب في مجموعة شمسية حجمها ليس أكبر من العدم ! و مجموعة شمسية في مجرّة يؤول حجمها، أمام ما يزيد عن 500 مليار مجرة(7) ، إلى العدم ! ثم يميتهم ثم يحييهم، ثم إما جنّة عرضها كعرض السماء والأرض وإما ناراً تكون شمسناً التي نراها اليوم كمثابة جمرة من جمارها !
صورة للشمس
الشمس، أكبر النجوم في مجرتنا، العمر:4.5 مليار سنة ، حجمها = 333 حجم الأرض ، كثافته 92.1% هيدروجين، 7.8% هليوم، درجة الحراة :15600000 درجة مئوية.......(
و الله كما لو أننا نرى الجنّة و رياضها بعرضها و سعتها، و كما لو أننا نرى هول جهنّم و حفرها من قبل يوم القيامة ! أليست الشمس بدليل الحسابات الرياضية و صور التليسكوبات الفلكية هي 333 مرّة حجم الأرض ؟! فماذا عن حجم البشر أمامها؟ بل ماذا لو سألنا أستاذ الفيزياء هذا عن ماذا سيحدث للشمس لو قفز كل البشر فيها قفزة واحدة؟! و الله لن ينقص ولن يزيد من حجمها بدليل المنطق والعقل والحساب و العلم شيئ ! ثم أليست الشمس بدليل نفس البراهين العلمية هي كمثابة نقطة في كلّ هذا الكون ؟ و أنّ في مجرتنا لوحدها فقط ما يزيد عن 100 مليار نجم بحجم الشمس أو أكثر ؟(9) فإذا ما هو حجم الشمس أمام 500 مليار مجرّة؟! هذا هو حال جمرة واحدة، أمّا عن التي ﴿ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَر ُ﴾ المدثر (آية:28) فبلسان حالها تقول : ﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ ق (آية:30)
و لنا أن تأمّل معا كيف يقودنا علم الإعجاز إلى الإيمان بوحدانية الله و معرفة حقائق صفاته الحميدة:
إنّ الكون بأبعاده وأجرامه اللامتناهية الحساب موجود، تلك بديهية مُسلمٌ بها بل هي علم اليقين عند كل بشر، وكونه موجوداً فهذا يعني منطقيّا أن مكوناته وأبعاده تشغل حيّزاً من شيء مّا أكبر منه قادر على احتوائه، ومن ثمّ تسيره وتنظيمه، هذه حقيقة لا يختلف فيها عاقلان ! ونحن عندما نتدبر في هذه الحقيقة ندرك بمبادئ المنطق أنّ لهذا الكون خالق، ولو تدبرنا أكثر لأدركنا بعين اليقين أنّ في كل زاوية من هذا الحيّز آيات وصفات وبراهين لهذا الخالق، صفات لا تنفك أن تتجلى في ربوع وأطراف خلقه، لأنّه كما علّمتنا مبادئ الرياضيات أنّ المحتوي يضفي بعض خصائصه على المحتوَى ! فيمتاز المحتوي على المحتوَى بالشمولية والإحاطة والتنظيم والأمر والتسيير ! بينما يتميّز المحتوَى أمام المحتوي بالعجز و التبعية والخضوع !
و في نفس السياق من المنطق نرى كيف يمكن لعلم الإعجاز أن يبرز لنا صفات وقدرة الخالق سبحانه في محتوَى الكون الذي أحاط باسراره و إحتوى سبحانه - بعلمه- كل أبعاده، ولكل من يرفض نظرية الخلق في محاولة لإعطاء تفسير عن كيفية نشوء الكواكب و المجرّات نقول لهم وندعوهم بدورنا للتدبر في أسرار الكون وحجمه وعدد مجراته وفضائه البديع، وبنفس المنطق والبديهيات السابقة سيدركون حتما كيف أنّ صفات الخالق واسمائه تتجسد في كونه عيانا وجهرا لكل عاقل لبيب.
فلو تدبرنا هنيهة في تركيبة السموات والأرض وحجم الكون الرهيب ثم تمعنّا في هذه النشأة الأولى ودلائل قدرة الخالق فيها لأدركنا بعلم اليقين أن الله هو الغني المستغني بذاته عن سواه من الخلق، وكل الوجود مفتقر إليه، فلا يمكنهم نفعه سبحانه وهم في نشأتهم وفي حالة وجودهم عدم ! و هو الكريم الذي يعطي دون أن يسئل ودون مقابل ويعطي بالزيادة، ألا ترون فساحة الكون وزيادته رغم أننا نعيش في نقطة فيه فقط؟! و هو العظيم خلق كونا عظيما و أورث عباده قطرة فيه ليريهم أنه هو القوي المتين، و هو العليم يعلم موضع ذرّة في واد سحيق في أرض بحجم العدم !
وهو منزل القرآن بالحق ليخبرنا عن الحق لكن أكثر الخلق غافلون، أوهمهم إبليس فوعدهم حياة بحجم العدم ! فنسوا أنّهم راحلون و ليست الدار بدار مقام أبدا، و لو كانو يفقهون قليلا لأدركوا أنّها ليست كذلك، فلا يمكن لدار مخلّدة أن تكون بحجم العدم ! و لأدركوا أيضا أن القوة التي أوجدتنا في هذه الدار قد أعدّت ما هو خير لنا، فلا يليق بالكربم أن يكرم غيره بالبخل ! وأنّه هو الرّحمن المنعم بجلائل النعم، أنعم علينا بالحياة في أرض كانت ميتة لملايير السنين، فأحياها لنا و أحيانا لعبادته. و أنّه هو الملك المتصرف بملكه كيف يشاء، فإن شاء أذهب بالكون و من فيه و أعاده لحالته العدم من قبل الخلق و من قبل الفتق. و أنّه هو القدّوس المتعالي على كل النقائص، فالنقص فينا نحن البشر، عاجزون حتى على إدراك ما سخّره الله لنا في باطن أنفسنا و في آفاق أرضنا وفي أطراف كوننا هذا. و أنّه هو المهيمن المسيطر، سيطر بعلمه و قوته على كل شيء، فكل شيء يسير بأمره و بعلمه، و ما من نجم أضاء أو أفل إلاّ كان به عليما بصيرا حتى و إن كان من بين ملايين الميليارات من النجوم. و هو الخالق الموجد للمخلوقات، فالق الحب و النوى، فاطر السموات و الأرض، يعلم موضع و حال و حاجة خلقه من أصغر الذرّات إلى أكبر المجرات. و أنّه هو القابض، قابض الأرواح و الأرزاق، والقابض على السموات والأرض والكون. و أنّه هو الباعث ، باعث الرسل إلى الناس، باعث الموتى من القبور، باعث النور من النجوم، وباعث الحياة كلها في اي مكان يشاء. و أنّه هو المُحصي لا يغيب عنه شيء، أحصى كل شيئ عددا، عالم بالذرّة و نواتها وبالخلية و شؤونها و بالمجرّة و نجومها، أحاط بكل شيئ علما و لا نحيط بشئ من علمه إلا ما شاء. و أنّه هو المُبدئ، مبدئ الخلق من العدم، خالق الكون ب "كن"، فاتق السماوات و الأرض، خالق الوقت و الفراغ و الأجرام . وأنّه هو المُعيد، يعيد الحياة و الوجود إلى أولّ الخلق و إلى مرحلة الرتق. و أنّه هو الأول لا شيء قبله، أزلي الوجود كان ولا يزال سبحانه على ما كان عليه من قبل خلق المكان . وأنّه هو الآخر، الباقي بقاء أبديا سرمديا بعدما أن يطوي السماء كطيّ السجل للكتب. و أنّه هو الظّاهر، أظهر وجوده بآياته في أنفسنا و في آفاقنا و ما وراء كوكبنا و مجرتنا. و أنّه هو الباطن، لا يعلم أحد ذاته و يعلم ما في الأرحام و ﴿ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴾ سبأ (آية:2) وأنّه هو المانع ، يمنع أسباب الهلاك ويمنع ما شاء عمن شاء، فيمنع ألاف المذنبات أن تسحق أرضنا كل يوم، و يمنع عشرات الزلازل من أن تخسف بنا الأرض في كل حين. و أنّه هو البديع أوجد كل شيء لا على مثال سابق، بديع السموات و الأرض ليس كمثله شيئ. و أنه الجبّار المنفّذ لأمره دون اعتراض، فلا يمكن للبشر أن يمنعوا سكون الأرض و لا منع دورانها، و لا إشتعال الشمس و لا خمودها و لا منع توسع الكون و لا توقيف إنطوائه، و انه هو ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ طه (آية:
الإعجاز العلمي بين علم اليقين و عين اليقين
وهكذا فإن لله صفاة و أسماء يمكن إدراكها بالعلم والتدبر في هذا الكون وأبعاده و ماهيته وفي كلّ شيء فيه، لقد ذكر الله سبحانه مكونات الكون (من السماوات و الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الكواكب) في كتابه الحكيم في أكثر من 800 آية قرآنية (10)، أي ما يعادل ثلاث مرّات سورة البقرة ! لا لشيئ و لكن ليرنا عجائب قدرته ولكي يأمرنا بالتدبر ومن ثم الإيمان والخضوع و ليخبرنا سبحانه أنّه مــا عُـــبـِد الله بشيء أفضل من العلم.
إن في الكون أسرار أعقد من خلق البشر أنفسهم بكثير، فمن أدركها كان له علم اليقين، ومن زاد عن ذلك وتدبّر تدبر الرجل العاقل الكيس كان له عين اليقين، ثم سيدرك بعدها حقيقة وجوده وغاية خلقه و وجوب عبوديته لخالقه، حتى تطهر نفسه و تزكو فتكون بذلك مؤهلة لمجاورة المولى تعالى و مجاورة الأنبياء و الشهداء والصالحين في أعلى الجنان، بعدما ينشئ الله عز وجل النشأة الآخرة و بعدما ان يرث سبحانه النشأة الأولى كما قال في سورة العنكبوت ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ العنكبوت (آية:19،20)،و النشأة الآخرة مرهونة بزوال النشأة الأولى كما قال سبحانه في سورة الواقعة ﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ ﴾ الواقعة (آية:62)، أي أنه سبحانه يضرب لنا مثل النشأة الأولى ويطلب منا أن نتدبر فيها لتحصيل علم اليقين من تدبرنا هذا، حتى إذا تسنّى لنا ذلك بفضله ومشيئته كان لنا عين اليقين، يقين يقودنا حتما إلى الإيمان الصحيح الراسخ في القلوب المتدبرة، قلوب متدبرّة تقودنا إلى قلوب سليمة خالية من كل شائبة و مجردة من كل شك و ظن و نفاق، و قلوب سليمة في نفوس ستلاقي ربها يوم الميعاد فترى أبواب الجنّة تفتح لها فذلك هو حق اليقين. ففي كلتى الآيتين الكريمتين يأمرنا الله بالتدبر: (فَانظُرُوا) و (فَلَوْلَا تَذكَّرُونَ)، أي بعد أن ندرك ونفقه الكيفية التي أنشأ الله عز وجلّ عليها الكون و مكوناته لا يرتابنا شك أبدا في وجود الدار الآخرة التي سينشؤها الله عز وجلّ بما فيها من سماوات وأرض أخرى ، ساعة أن يبدل الله عز وجلّ الأرض غير الأرض والسماء غير السماء (11) ، ومن ثم ينشئ النشأة الآخرة نشأ جديدا، كما قال في سورة إبراهيم ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ إبراهيم (آية:48)، و ينشئ سبحانه البشر نشأة أخرى كما قال في سورة الواقعة ﴿ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ الواقعة (آية:61 ).
يجب علينا أن ندرك كل ذلك و إلاّ لما إكتمل إيماننا، بل نحن مسؤلون يوم القيامة عن عدم التفكر و التدبر والإمعان في ما خلق الله لنا، كما قال عز و جل ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ الأعراف (آية:179 )، و الغفلة كما علمنا هي الإنحطاط و التدّني إلى أدنى درجة الجهل و اللامبالات و النسيان و الشرود الذهني، وعقوبتها كما هو مبين في الآية هي النار و العياذ بالله ! ثم إن بين البهائم و البشر ليس وجود أو غياب العقل فحسب و لكن تشغيل هذا العضو هي الغاية من وجوده، و إلاّ لكان من يحمل عقلا معطلا غافلا عن التفكر والتدبر كمن لا يحمل عقلا البتة !
ولما كان الإصغاء و النظر و الإمعان هي من مظاهر التدبر، والذي هو واجب بدوره ويقود صاحبه إلى العلم ثم إلى الإيمان (كما سبق تباينه ذلك في الآية من سورة الأعراف) كان الإنسان مسؤل عن تركه، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ الإسراء (آية:36 ).
و الآيات السابقة الذكر توحي لنا عن إستفهامات كثيرة وكفيلة بأن تقودنا إلى اليقين: فلماذا مثلا خلق الله عز وجل لنا كل هذه المجرات وهذا العدد الذي لا يحصى من النجوم أليس للتدبر و التمعن و من ثم الإيمان و الخضوع ؟؟ ثم لماذا خلق سبحانه لنا عقل مفكر فضّلنا به عن كثير ممن خلق ؟! أليس لتحريك العقل بالتدبر في قدرة خالق النشأة الأولى لكي يكون لنا اليقين بالنشأة الآخرة ؟! و من ثم الإيمان قطعا بالحشر و بالبعث و المآل إلى الجنة أو النار ؟! فلو لم يكن الإيمان بالله غاية و سيلتها التدبر لكانت المجموعة الشمسية الحالية تكفي للعيش في النشاة الأولى دون الآلاف من الملايير من المجرات الأخرى !! و مثل هذه الآيات- السابقة الذكر- في القرآن كثيرة، فلا يكاد يخلو القرآن من الحث عن التدبر و التمعن في عظمة الكون و تبيان الوعد لمن تفكّر في ملكوت الله و وعيد من غفل عن ذلك التكليف ! و لا يكاد القرآن يتوقف عن تكليفنا و حثنا للتمعن و التدبر في النشأة الأولى من سموات وأرض ونجوم و مجرات وزمن وفراغ وكل شيئ لم ندركه حتى الآن، أليس في هذا التكليف غاية تحقيق الإيمان بالنشأة الآخرة من جنة نعيم ونار جحيم؟ فعجب إذا كل العجب للمكذّب بالنّشأة الآخرة وهو يرى عظمة النشأة الأولى ! وحال هذا المكذّب كحال من يدرك بعلم اليقين أنّ في الكون عددا لا يحصى من الشموس، و تراه ينقل الخبر يقينا و يسلم به تسليما كليا، ويكذب بوجود نار حارقة- في الدار الآخرة- تكون أضعاف أضعاف شمس الدنيا هذه !
أو يؤمن مثلا أن في الكون نجوم و مجرّات تبعد عن كوكبنا بآلاف السنين الشمسية ويكذّب بقول الرسول أن لجهنّم قاع مقداره 70 خريفاً !! أو يصدق يقيناً أن أقرب ثقب اسود إلينا يبعد عنا ب 5000 سنة شمسية و يكذب بقول الرسول أن بين باب وآخر من أبواب الجنة الثمانية هو مسيرة 70 عاما(12) ! أو تراه يفترض وجود مخلوقات أخرى في كواكب أخرى و يكذّب بوجود الملائكة ! أو تراه يفترض إمكانية انهيار الكون على نفسه و زواله ولكن لا يؤمن بيوم القيامة و أهواله ! فيقول هذا من يقين ناسا (NASA) وذاك من أساطير الأولين ! فهو لا يريد أن تكون لديه رؤية البصيرة وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يدركه، فهذا الذي لم يقوده علم اليقين إلى عين اليقين لا يريد أن يتعلم بل تراه يدّعي أنه يعلم، وينكر على من يعلم أنه يعلم، فهو الجاهل قياسا على أبي جهل حتى و لو كان من أبرز علماء النازا نفسها!!
فالذي جاءه شيء من العلم و قاده علمه هذا إلى الإيمان يكون أحسن ممن آمن طوعا دون أن يدرك شيء من هذا العلم، فلهذا كانت درجة العلماء من المؤمنين أقرب للأنبياء من درجة العامة من الناس، وكانت درجة الأنبياء و المرسلين هي العالية مطلقا. كما أن للعلماء عند الله مكانة عظيمة على غرار العامة، ذلك أنهم يخشون الواحد القهار أكثر من غيرهم بعلمهم الذي علمهم إياه خالقهم فأدركوا بواسطته حقيقة أسمائه المقدسة و صفاته الجليلة و ما توجبه على أنفسهم من آثار العبودية ، فأثنى عليهم الله تعالى في قوله : ﴿ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الحج (آية:54 ) وقال أيضا : ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ٌ﴾ المجادلة (آية:11 )، فهذه الآية تبين فضل الله على عباده المؤمنين وفضله بدرجات أعلى على العلماء والمتعلمين، و يبين سبحانه في الآية التي قبلها أنّ صفة العلم للعلماء قد سبقت صفة إيمانهم ، و هذا راجع أن بعض العلماء - أو ممن
أوتوا العلم- قد آمنوا بعد إدراكهم لحقيقة ما أنزله الله عز وجلّ من علم في القرآن الكريم بواسطة الإعجاز، وبالتالي استبق علم العلماء إيمانهم فوقع الإيمان في قلوبهم موقعا حسنا . ففي أغلب الأحيان يكون سبب إدراك بعض من العلماء لصحة الآيات القرآنية ورسالة محمد صلى الله عليه و سلم ناتج عن تطابق الآيات القرآنية بما توصلوا إليه في أعمالهم التجريبية و النظرية من حيثيات علميّة عن الوجود الكوني، مما يعني أن نتائج أعمالهم العلمية القطعية، التي أصبحت في خانة اليقين، برهنت على أن القرآن الكريم إنما هو كلام منزل و منزه من الله جل شأنه ولا يمكن لبشر أي كان أن يأتي بمثله أبدا، فكان كلاما معجزا في كل جوانب الحياة البشرية و علومها.
من حكمته تعالى أراد للقرآن أن يكون كتاب آخر شرائعه وحجة آخر رسله، شريعة تمتد من أول الوحي- منذ 14 قرنا - إلى آخر وجود في هذا الزمان، و لما تعددت الأمم والعصور والأحداث من أول نزول الوحي إلى آخر الزمان، تعدّدت بحكمة الخالق أوجه إعجازات القرآن. وفي ذات القرآن نفسه راح سبحانه يأمرنا أن نسير في الأرض و نتدبر أمر النشأة الأولى من السماوات و الأرض و البحار والمحيطات وأمر أنفسنا، ثم يخبرنا بحال الدنيا في آخر الزمان من أهوال لها علاقة مباشرة بمكونات الكون، فالذي يتدبر مثلا تركيبة الكون يمكنه أن يطابق معرفته بأهوال يوم القيامة و لا يرتابه شك في ميعادها و يقين حدوثها، بعكس الجاهل فهو كالأعمى يسقطه جهله في كل تراهة و في كل إنكار لقدرة الخالق و وجوده، و صدق ربنا إذ قال:﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ هود (آية:24 )
أما فيما يخص آيات الرحمان في آخر الزمان و إشارات يوم القيامة من هول و إنكدار للنجوم و انفجار للبحار و تكوير للشمس وغيرها هي آيات تثبت حقائق علمية يقينية وثابتة، بل إن في مدلولها إعجازات واضحة المعالم سنبينها في ثلاث إعجازات من ثلاث آيات متتالية من سورة التكوير:
الإعجاز الأول
نحن نعلم يقينا أن الهيدروجين هو الوحدة الأساسية في حدوث عملية الإندماج النووي في باطن الشمس، فهي تشتعل منذ 4.5 ملايير سنة بواسطة هذه العملية (13) (Nuclear Fusion)،حيث تندمج في بطنها ذرتين من الهيدروجين منتجة طاقة حرارية هائلة ومخلفة ذرّة واحدة من الهيليوم الطبيعي، فالشمس عبارة عن مصنع طبيعي هائل ورهيب للطاقة الحرارية عن طريق عملية الاندماج النووي، و ستظل الشمس مشتعلة مستهلكة بذلك كل الهيدروجين الذي عليها حتى تستنفذه كليّة ومن ثمّ تنطفئ ويذهب نورها فيتقلص حجمها وتنهار كتلتها على مركزها حتى تصبح بما يعرف Supernova (14) ،ولا يملك أحدا من البشر كم تبقى لها من عمر ومتى ستنطفئ ما عدى بعض التقديرات والاحتمالات، هذه حقيقة علمية حديثة وثابتة لا غبار عليها، لكن القرآن قد سبق العقل البشري لهذه الحقيقة، حيث وعد الله جلّ وعلى قائلا : ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾، التكوير (آية:01) و "كورت" يعني إنطفئت ونكست وأذهب الله بنورها كما جاء في تفسير الطبري والقرطبي و إبن كثير و الجلالين.
الإعجاز الثاني
ظلّ قانون التجاذب العام ظاهرة محيرة لعلماء الفيزياء والرياضيات منذ أن وضعت أسس الفيزياء النيوتونية، و هو كذلك ما دام يحكم ما يزيد عن مئة ألف مليون مليار جرم سماوي، كل يسبح في مدار خاص به دون أن يلتطم أي نجم بآخر، فمن هذا الذي يمنعها من التلاطم لو ذهب قانون التجاذب العام إذا؟! فالذي وضع قانون التجاذب الفلكي الذي حال دون سقوط الأجرام و تلاطم بعضها ببعض في الفضاء الفسيح لهو قادر أن يذهب بالقانون نفسه في أي وقت يشاء، فتخرّ النجوم هاوية بأمر خالقها كما وعد عز و جل في قوله: ﴿ وَإِذَا النُّجُوم اِنْكَدَرَتْ ﴾ التكوير (آية:02) أي تساقطت وهوت، وقال الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية: " وَإِذَا النُّجُوم تَنَاثَرَتْ مِنْ السَّمَاء فَتَسَاقَطَتْ, وَأَصْل الِانْكِدَار هو الِانْصِبَاب" و كذا قال القرطبي.
الإعجاز الثالث
كما قلنا أعلاه أن الشمس هي مصدر طبيعي للطاقة الحرارية من خلال اندماج نووي لذرّات الهيدروجين المكونة لها بنسبة 92.1% (15)، وللإشارة فقط فإن الإنسان لم يتمكن من تحقيقه و تكرار ما يحدث في الشمس في المخابر العلمية و لو بطريقة مصغّرة، أمّا ما يقوم الإنسان به في مركباته النووية الحديثة هو إنتاج طاقة نووية بإحداث انشطار لذرة الهيدروجين وليس بدمج ذرتين منها، والفرق بينهم شاسع : فالاندماج النووي كما هو في الشمس ينتج طاقة أكبر دون فضلات قاتلة فالهليوم ليس مضرا، أما الانشطار النووي كما في المركبات النووية البشرية ينتج طاقة أصغر بفضلات مدمرة. و في سعيهم لاستخلاص أو الحصول على الهيدروجين لغرض الوصول إلى تجارب تسهل استبدال عملية الاندماج بعملية الانشطار لاحظ علماء الطاقة النووية وجود كميات هائلة من الهيدروجين الطبيعي في البحار والمحيطات (16)، و هذا ما دفع يبعضهم للتفكير في كيفية استخراج الكميات الهائلة لاستعمالها في بعض تجارب الاندماج النووي، كما أنهم يتعجبون كيف لم تندمج هذه الذرات تلقائيا مكونة لنا بحاراً و محيطات من نار!؟ و ليتهم يعودو إلى كتاب الله فيقرؤون قوله من سورة التكوير إذ قال : ﴿ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ التكوير (آية:06) أي أُوقِدَتْ و اشتعلت ناراً كما في تفسير الجلالين حيث قال : " سُجِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّشْدِيد : أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا"
هل يمكن لبشر، عاش في وقت التنور والخيام و الحجارة وفي صحراء يتيه فيها حتى إنسان القرن الواحد و العشرين، أن يعلم بحال البحار و المحيطات و أسرارها والكيمياء وعلومها، لولا أن يكون إلا نبيا رسولا ؟! بل كيف يمكنه صلى الله عليه و سلم أن يتكلم عن إمكانية إنطفاء الشمس دون أن يعلم تكوينها النووي والكيميائي؟! وكيف له أيضا أن يدرك قانون تجاذب الأجسام والكواكب والنجوم وهو بشر قد عاش في القرن السادس الميلادي؟؟ عاش في بيئة كان الإنسان يعتقد حينها أن الأرض ممددت و مسطحة في أطرافها سلاسل من جبال كبيرة تحمل أطراف السماء ! فيأهل الديانات الباطلة و الاعتقادات الزائفة إنّ الكون و أسراره و القرآن و إعجازه ورائكم كفيل بأن يثبت و وحدانية الخالق، و أن يثبت صدق رسالة محمد صلى الله عليه و سلّم و أن يبطل عباداتكم الضالة.
انتهى درس الفيزياء فراح الأستاذ الذي ذكرناه في مقدمة هذا البحث يضيف جوابا للسؤال، قائلا لطلاّبه: " لا تسألوني عن حجم البشر وكتلتهم أمام كتلة الأرض لكن إسألوني عن حجم الأرض ونسبتها أمام كلّ الكون ! أما علمتم أنّ كوكبنا هذا يؤول حجمه إلى العدم المحض أمام آلاف الملايير من المجرات؟! فلو إنفجرت الأرض كلّها بما فيها وتحولت إلى دخان و ذرات و غبار ورماد، ثم من باب الفضول تناقلت النجوم هذا الخبر بينها، لما تجاوز خبر إنفجارها مجرتنا هذه لدرجة تفاهته...!" (17) فأنفجر مدرج الجامعة ضاحكا مرّة أخرى، أما أنا فرحت أتلو قول العزيز الرحمن : ﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ﴾ النجم (آية:59، 60،61،62)
هدى الجابري- المساهمات : 11
تاريخ التسجيل : 26/04/2011
مواضيع مماثلة
» سر من اسرار الكون العظيم
» من اسرار الكون ايضا
» سرمن اسرار الكون العظيم
» صور الكون
» الكون كله يتحجب
» من اسرار الكون ايضا
» سرمن اسرار الكون العظيم
» صور الكون
» الكون كله يتحجب
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى